الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَاتَلُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ، وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنٍ أَظْهُرِهُمْ {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}، يَقُولُ: يَقْتُلْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (وَيَخِزِهُمْ)، يَقُولُ: وَيُذِلُّهُمْ بِالْأَسْرِ وَالْقَهْرِ {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}، فَيُعْطِيكُمُ الظَّفَرَ عَلَيْهِمْ وَالْغَلَبَةَ {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، يَقُولُ: وَيُبَرِّئُ دَاءَ صُدُورِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِأَيْدِيكُمْ، وَإِذْلَالِكُمْ وَقَهْرِكُمْ إِيَّاهُمْ. وَذَلِكَ الدَّاءُ، هُوَ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوْجِدَةِ بِمَا كَانُوا يَنَالُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}: صُدُورَ خُزَاعَةَ حُلَفَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا نَقَضُوا الْعَهْدَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعُونَتِهِمْ بَكْرًا عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: خُزَاعَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْقَزِيُّ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: خُزَاعَةُ، يَشْفِ صُدُورَهُمْ مِنْ بَنِي بَكْرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، خُزَاعَةُ حُلَفَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، قَالَ: حُلَفَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُزَاعَة. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيُذْهِبُ وَجْدَ قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ منْ خُزَاعَةَ، عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَغَمَّهَا وَكَرْبَهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْوَجْدِ عَلَيْهِمْ، بِمَعُونَتِهِمْ بَكْرًا عَلَيْهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ العَنْقَزِيُّ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَيُذْهَبَ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}، حِينَ قَتْلِهِمْ بَنُو بَكْرٍ، وَأعَانَتُهُمْ قُرَيْشٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، مِثْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَأَعَانَتْهُمْ عَلَيْهِمْ قُرَيْشٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}، فَإِنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، وَلِذَلِكَ رُفِعَ، وَجُزِمَ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُقَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيَخِزُهُمْ، وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}، لِأَنَّ الْقِتَالَ غَيْرُ مُوجِبٍ لَهُمُ التَّوْبَةَ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مُوجِبٌ لَهُمُ الْعَذَابَ مِنَ اللَّهِ، وَالْخِزْيَ، وَشِفَاءَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَهَابَ غَيْظِ قُلُوبِهِمْ، فَجُزِمَ ذَلِكَ شَرْطًا وَجَزَاءً عَلَى الْقِتَالِ، وَلَمْ يَكُنْ مُوجِبًا الْقِتَالُ التَّوْبَةَ، فَابْتُدِئَ الْخَبَرُ بِهِ وَرُفِعَ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَمُنُّ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْكَافِرِينَ، فَيَقْبَلُ بِهِ إِلَى التَّوْبَةِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُ (وَاللَّهُ عَلِيمٌ)، بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ، وَمَنْ هُوَ لِلتَّوْبَةِ أَهْلٌ فَيَتُوبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ مِنْهُمْ غَيْرُ أَهْلٍ لَهَا فَيَخْذُلُهُ (حَكِيمٌ)، فِي تَصْرِيفِ عِبَادِهِ مِنْ حَالِّ كُفْرٍ إِلَى حَالِّ إِيمَانٍ بِتَوْفِيقِهِ مَنْ وَفَّقَهُ لِذَلِكَ، وَمِنْ حَالِّ إِيمَانٍ إِلَى كُفْرٍ، بِخِذْلَانِهِ مَنْ خَذَلَ مِنْهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدهمُ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ بِقَوْلِهِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} الْآيَةَ، حَاضًّا عَلَى جِهَادِهِمْ: (أَمْ حَسِبْتُمْ)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يَتْرُكَكُمُ اللَّهُ بِغَيْرِ مِحْنَةٍ يَمْتَحِنُكُمْ بِهَا، وَبِغَيْرِ اخْتِبَارٍ يَخْتَبِرُكُمْ بِهِ، فَيَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْكُمْ فِي دِينِهِ مِنَ الْكَاذِبِ فِيهِ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا}، يَقُولُ: أَحَسِبْتُمْ أَنْ تَتْرُكُوا بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ يَعْرِفُ بِهِ أَهْلَ وِلَايَتِهِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ فِي سَبِيلِهِ، مِنَ الْمُضَيِّعِينَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، الْمُفَرِّطِينَ {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ}، يَقُولُ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ لَمَّ يَتَّخِذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا مَنْ دُونِ رَسُولِهِ وَلَا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (وَلِيجَةً). هُوَ الشَّيْءُ يَدْخُلُ فِي آخَرَ غَيْرِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: "وَلَجَ فُلَانٌ فِي كَذَا يَلِجُهُ، فَهُوَ وَلِيجَةٌ". وَإِنَّمَا عَنَى بِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْبِطَانَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، يُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَهُمْ {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو خِبْرَةٍ بِمَا تَعْمَلُونَ، مِنَ اتِّخَاذِكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَدُونَ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَوْلِيَاءَ وَبِطَانَةً، بَعْدَ مَا قَدْ نَهَاكُمْ عَنْهُ، لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَاللَّهُ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْتُ فِي مَعْنَى "الْوَلِيجَةِ"، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، يَتَوَلَّجُهَا مِنَ الْوِلَايَةِ لِلْمُشْرِكِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَلِيجَةً}، قَالَ: دَخَلًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَتْرُكُوا}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِيجَةً}، قَالَ: أَبِي أَنْ يَدَعُهُمْ دُونَ التَّمْحِيصِ. وَقَرَأَ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، وَقَرَأَ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 142]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}، الْآيَاتِ كُلَّهَا، [سُورَةُ الْبَقَرَةِ] أَخْبَرَهُمْ أَنْ لَا يَتْرُكَهُمْ حَتَّى يُمَحِّصَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ. وَقَرَأَ: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، لَا يَخْتَبِرُونَ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، [سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ: 3]، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُمَحِّصَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَلِيجَةً}، قَالَ: هُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ أَوْ قَالَ أَحَدَهُمَا. وَقِيلَ: (أَمْ حَسِبْتُمْ)، وَلَمْ يَقُلْ: "أَحَسِبْتُمْ"، لِأَنَّهُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُعْتَرِضِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ، فَأُدْخِلَتْ فِيهِ "أَمْ" لِيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ الْمُبْتَدَأِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ نَظَائِرُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا يَنْبَغِي لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ وَهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ. يَقُولُ: إِنَّالْمَسَاجِدَ إِنَّمَا تُعَمَّرُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا، لَا لِلْكُفْرِ بِهِ، فَمَنْ كَانَ بِاللَّهِ كَافِرًا، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعْمُرَ مَسَاجِدَ اللَّهِ. وَأَمَّا شَهَادَتهمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَإِنَّهَا كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}، يَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْمُرُوهَا. وَأَمَّا {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ يُسْأَلُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: نَصْرَانِيٌّ وَالْيَهُودِيُّ، فَيَقُولُ: يَهُودِيٌّ وَالصَّابِئُ، فَيَقُولُ: صَابِئٌ وَالْمُشْرِكُ يَقُولُ إِذَا سَأَلَتْهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: مُشْرِكٌ! لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَهُ أَحَدٌ إِلَّا الْعَرَبُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو الْعَنْقَزِيُّ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}، قَالَ: يَقُولُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْمُرُوهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}، قَالَ: النَّصْرَانِيُّ يُقَالُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: نَصْرَانِيٌّ وَالْيَهُودِيُّ يُقَالُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: يَهُودِيٌّ وَالصَّابِئُ يُقَالُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: صَابِئٌ. وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، يَقُولُ: بَطَلَتْ وَذَهَبَتْ أُجُورُهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ بَلْ كَانَتْ لِلشَّيْطَانِ {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}، يَقُولُ: مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا، لَا أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}، فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: {مَسَاجِدَ اللَّهِ}، عَلَى الْجِمَاعِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: (مَسْجِدَ اللَّهِ)، عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهُمْ جَمِيعًا مُجْمِعُونَ عَلَى قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}، عَلَى الْجِمَاعِ، لِأَنَّهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ، احْتَمَلَ مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجِمَاعِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَذْهَبُ بِالْوَاحِدِ إِلَى الْجِمَاعِ، وَبِالْجِمَاعِ إِلَى الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِمْ: "عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}، الْمُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، الْمُخْلِصُ لَهُ الْعِبَادَةَ (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، يَقُولُ: الَّذِي يُصَدِّقُ بِبَعْثِ اللَّهِ الْمَوْتَى أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ)، الْمَكْتُوبَةَ، بِحُدُودِهَا وَأَدَّى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِلَى مَنْ أَوْجَبَهَا اللَّهُ لَهُ {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}، يَقُولُ: وَلَمْ يَرْهَبْ عُقُوبَةَ شَيْءٍ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ، سِوَى اللَّهِ {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، يَقُولُ: فَخَلِيقٌ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ هَذِهِ صَفَّتْهُمْ، أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ قَدْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، يَقُولُ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، وَآمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. يَقُولُ: أَقَرَّ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ)، يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}، يَقُولُ: ثُمَّ لَمْ يَعْبُدْ إِلَّا اللَّهَ قَالَ: {فَعَسَى أُولَئِكَ}، يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 79]: يَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ سَيَبْعَثُكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ، وَكَّلُّ "عَسَى"، فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ: إِنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ، وَسُقَاةُ الْحَاجِّ، وَعُمَّارُ هَذَا الْبَيْتِ، وَلَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنَّا! فَقَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، أَيْ: إِنَّ عِمَارَتَكُمْ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ}، أَيْ: مَنْ عَمَرَهَا بِحَقِّهَا {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} فَأُولَئِكَ عُمَّارُهَا {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وَ"عَسَى" مِنَ اللَّهِ حَقٌّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِقَوْمٍ افْتَخَرُوا بِالسِّقَايَةِ وَسَدَانَةِ الْبَيْتِ، فَأَعْلَمَهُمْ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّالْفَخْرَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، لَا فِي الَّذِي افْتَخَرُوا بِهِ مِنَ السِّدَانَةِ وَالسِّقَايَةِ. وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ وَتَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الدِّمَشْقِيُّ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلُ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ! وَقَالَ آخَرُ: بَلْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ! وَقَالَ آخَرُ: بَلِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا قُلْتُمْ! فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمْعَةَ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ. قَالَ: فَفَعَلَ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَجُعِلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}». حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ حِينَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ: لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ، وَنَفُكُّ الْعَانِي! قَالَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}، إِلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمِينَ)، يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشِّرْكِ، وَلَا أَقْبَلُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}، إِلَى قَوْلِهِ: (الظَّالِمِينَ)، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: عِمَارَةٌ بَيْتِ اللَّهِ، وَقِيَامٌ عَلَى السِّقَايَةِ، خَيْرٌ مِمَّنْ آمَنَ وَجَاهَدَ، وَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِالْحَرَمِ وَيَسْتَكْبِرُونَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَهَّلُهُ وَعُمَّارُهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِعْرَاضَهُمْ، فَقَالَ لِأَهْلِ الْحَرَمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: 66، ]، يَعْنِي أَنَّهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ بِالْحَرَمِ. وَقَالَ: (بِهِ سَامِرًا)، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمُرُونَ، وَيَهْجُرُونَ الْقُرْآنَ وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَيَّرَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْجِهَادَ مَعَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى عُمْرَانِ الْمُشْرِكِينَ الْبَيْتَ وَقِيَامهمْ عَلَى السِّقَايَةِ. وَلَمْ يَكُنْ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَعَ الشِّرْكِ بِهِ، أَنْ كَانُوا يَعْمُرُونَ بَيْتَهُ وَيَخْدُمُونَهُ. قَالَ اللَّهُ: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، يَعْنِي: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْعِمَارَةِ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ "ظَالِمِينَ"، بِشِرْكِهِمْ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمُ الْعِمَارَةُ شَيْئًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلُ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ! وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلُ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ! وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ! فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّى الْجُمْعَةَ دَخَلْنَا عَلَيْهِ! فَنَـزَلَتْ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}». حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: نَـزَلَتْ فِي عَلَيٍّ، وَعَبَّاسٍ، وَعُثْمَانَ، وَشَيْبَةَ، تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِكَ سِقَايَتِنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتِكُمْ، فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا». قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: `أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: نَـزَلَتْ فِي عَلَيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، تَكَلَّمَا فِي ذَلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرْتُ عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ الْقُرَظِيُّ يَقُولُ: افْتَخَرَ طَلْحَةُ بْنُ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ طَلْحَةُ، أَنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ، مَعِي مِفْتَاحُهُ، لَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِيهِ! وَقَالَ عَبَّاسٌ: أَنَا صَاحِبُ السِّقَايَةِ وَالْقَائِمُ عَلَيْهَا، وَلَوْ أَشَاءُ بِتُّ فِي الْمَسْجِدِ! وَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ إِلَى الْقِبْلَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ النَّاسِ، وَأَنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ! فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ كُلَّهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «لَمَّا نَـزَلَتْ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}، قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا أَرَانِي إِلَّا تَارِكَ سِقَايَتِنَا! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَقِيمُوا عَلَى سِقَايَتِكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا خَيْرًا"». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ}، قَالَ: افْتَخَرَ عَلَيٌّ، وَعَبَّاسٌ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ، فَقَالَالْعَبَّاسُ: أَنَا أَفْضَلُكُمْ، أَنَا أَسْقِي حُجَّاجَ بَيْتِ اللَّهِ! وَقَالَ شَيْبَةُ: أَنَا أَعْمُرُ مَسْجِدَ اللَّهِ! وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا هَاجَرَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُجَاهِدُ مَعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، إِلَى: (نَعِيمٌ مُقِيمٌ). حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الْآيَةَ، أَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ أُسِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ يُعَيِّرُونَهُمْ بِالشِّرْكِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، وَنَحْجُبُ الْبَيْتَ، وَنَسَقِي الْحَاجَّ! فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الْآيَةَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا: أَجَعَلْتُمْ، أَيُّهَا الْقَوْمُ، سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (لَا يَسْتَوُونَ) هَؤُلَاءِ، وَأُولَئِكَ، وَلَا تَعْتَدِلُ أَحْوَالُهُمَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَنَازِلُهُمَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ بِغَيْرِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ عَمَلًا {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ مَنْ كَانَ بِهِ كَافِرًا وَلِتَوْحِيدِهِ جَاحِدًا. وَوَضْعُ الِاسْمِ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَعَمْـرُكَ مَـا الفِتْيَـانُ أَنْ تَنْبُـتَ اللِّحَى *** وَلَكِنَّمَـا الفِتْيَـانُ كُـلُّ فَتًـى نَـدِي فَجَعَلَ خَبَرَ "الْفِتْيَانِ"، "أَنْ"، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: "إِنَّمَا السَّخَاءُ حَاتِمٌ، وَالشِّعْرُ زُهَيْرٌ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ بَيْنَ فِرَقِ الْمُفْتَخِرِينَ الَّذِينَ افْتَخَرَ أَحَدُهُمْ بِالسِّقَايَةِ، وَالْآخِرُ بِالسِّدَانَةِ، وَالْآخِرُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا) بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا بِتَوْحِيدِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (وَهَاجَرُوا) دُوْرَ قَوْمِهِمْ (وَجَاهَدُوا) الْمُشْرِكِينَ فِي دِينِ اللَّهِ {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ}، وَأَرْفَعُ مَنْـزِلَةً عِنْدَهُ، مِنْ سُقَاةِ الْحَاجِّ وَعُمَّارِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُمْ بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ (وَأُولَئِكَ)، يَقُولُ: وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ، أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا (هُمُ الْفَائِزُونَ)، بِالْجَنَّةِ، النَّاجُونَ مِنَ النَّارِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُبَشِّرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ)، لَهُمْ، أَنَّهُ قَدْ رَحِمَهُمْ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَبِرِضْوَانٍ مِنْهُ لَهُمْ، بِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَدَائِهِمْ مَا كَلَّفَهُمْ (وَجَنَّاتٍ)، يَقُولُ: وَبَسَاتِينُ (لَهُمِْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)، لَا يَزُولُ وَلَا يُبِيدُ، ثَابِتٌ دَائِمٌ أَبَدًا لَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، أَيُ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: رِضْوَانِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ (خَالِدِينَ فِيهَا)، مَاكِثِينَ فِيهَا، يَعْنِي فِي الْجَنَّاتِ (أَبَدًا)، لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ وَلَا حَدَّ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمْ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- النَّعْتَ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (أَجْرٌ)، ثَوَابٌ عَلَى طَاعَتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَأَدَائِهِمْ مَا كَلَّفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ (عَظِيمٌ)، وَذَلِكَ النَّعِيمُ الَّذِي وَعَدَهُمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ بِطَانَةً وَأَصْدِقَاءَ تُفْشُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَكُمْ، وَتُطْلِعُونَهُمْ عَلَى عَوْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَتُؤَثِّرُونَ الْمُكْثَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}، يَقُولُ: إِنِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ بِاللَّهِ، عَلَى التَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ}، يَقُولُ: وَمَنْ يَتَّخِذْهُمْ مِنْكُمْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْثِرُ الْمَقَامَ مَعَهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، يَقُولُ: فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، هُمُ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ، فَوَضَعُوا الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعهَا، وَعَصَوُا اللَّهَ فِي أَمْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ نَـزَلَ نَهْيًا مِنَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَقْرِبَائِهِمُ الَّذِينَ لَمَّ يُهَاجِرُوا مَنْ أَرْضِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، قَالَ: أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلَبِ: أَنَا أَسْقِي الْحَاجَّ! وَقَالَ طَلْحَةُ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: أَنَا صَاحِبُ الْكَعْبَةِ، فَلَا نُهَاجِرُ! فأُنْـزِلَتْ: {لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، بِالْفَتْحِ، فِي أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْهِجْرَةِ. هَذَا كُلُّهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ، لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، الْمُقِيمِينَ بِدَارِ الشِّرْكِ: إِنْ كَانَ الْمَقَامُ مَعَ آبَائِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَإِخْوَانِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ وَكَانَتْ {أَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}، يَقُولُ: اكْتَسَبْتُمُوهَا {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}، بِفِرَاقِكُمْ بَلَدَكُمْ {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، فَسَكَنْتُمُوهَا (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ)، مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، مِنْ دَارِ الشِّرْكِ وَمِنْ جِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، يَعْنِي: فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ (فَتَرَبَّصُوا)، يَقُولُ: فَتنَظِّرُوا {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ وَفِي مَعْصِيَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، بِالْفَتْحِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، فَتْحِ مَكَّةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}، يَقُولُ: تَخْشَوْنَ أَنْ تَكْسَدَ فَتَبِيعُوهَا {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، قَالَ: هِيَ الْقُصُورُ وَالْمَنَازِلُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}، يَقُولُ: أَصَبْتُمُوهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ}، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي أَمَاكِنِ حَرْبٍ تُوَطِّنُونَ فِيهَا أَنْفُسَكُمْ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّكُمْ، وَمَشَاهِدَ تَلْتَقُونَ فِيهَا أَنْتُمْ وَهُمْ كَثِيرَةٍ (وَيَوْمَ حُنَيْنَ)، يَقُولُ: وَفِي يَوْمِ حُنَيْنٍ أَيْضًا قَدْ نَصَرَكُمْ. وَ (حُنَيْنٍ) وَادٍ، فِيمَا ذُكِرَ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَأُجْرِيَ، لِأَنَّهُ مُذَكَّرُ اسْمٍ لِمُذَكِّرٍ، وَقَدْ يُتْرَكُ إِجْرَاؤُهُ، وَيُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ اسْمًا لِلْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: نَصَـرُوا نَبِيَّهُـمْ وَشَـدُّوا أَزْرَهُ *** بِحُـنَيْنَ يَـوْمَ تَـوَاكُلِ الأَبْطَـالِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ الْعَطَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: " حُنَيْنٌ "، وَادٍ إِلَى جَنْبِ ذِي الْمَجَازِ. {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، وَكَانُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا، اثَّنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ الْيَوْمَ: «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّة». وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَقَوْلُ اللَّهِ: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، يَقُولُ: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمْ شَيْئًا {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ}، يَقُولُ: وَضَاقَتِ الْأَرْضُ بِسِعَتِهَا عَلَيْكُمْ. وَ "البَاءُ" هَهُنَا فِي مَعْنَى "فِي"، وَمَعْنَاهُ: وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ فِي رَحَّبَهَا، وَبِرَحَبِهَا. يُقَالُ مِنْهُ: "مَكَانٌ رَحِيبٌ"، أَيْ وَاسِعٌ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الرِّحَابُ "رِحَابًا" لَسَعَتِهَا. {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}، عَنْ عَدُوِّكُمْ مُنْهَزِمِينَ "مُدَبِّرِينَ"، يَقُولُ: وَلَّيْتُمُوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَذَلِكَ الْهَزِيمَةُ. يُخْبِرُهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَمِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ، وَأَنَّهُ يَنْصُرُ الْقَلِيلَ عَلَى الْكَثِيرِ إِذَا شَاءَ، وَيُخَلِّي الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ، فَيَهْزِمُ الْكَثِيرَ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ}، حَتَّى بَلَغَ: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، قَالَ: "حُنَيْنٌ "، مَاءٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، قَاتَلَ عَلَيْهَا نَبِيُّ اللَّهِ هَوَازِنَ وَثَقِيفَ، وَعَلَى هَوَازِنَ: مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَخُو بَنِي نَصْرٍ، وَعَلَى ثَقِيفَ: عَبْدُ يَالَيْلَ بْنُ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا: عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَأَلْفَانِ مِنَ الطُّلَقَاءِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمئِذٍ: "لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ بِكَثْرَةٍ"! قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الطُّلَقَاءَ انْجَفَلُوا يَوْمئِذٍ بِالنَّاسِ، وَجَلَوْا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَـزَلَ عَنْ بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ. وَذِكْرُ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ: " «أَيْ رَبِّ، آتِنِي مَا وَعَدْتِنِي"! قَالَ: وَالْعَبَّاسُ آخُذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَادِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَيَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ!"، فَجَعَلَ يُنَادِي الْأَنْصَارَ فَخِذًا فَخِذًا، ثُمَّ قَالَ: "نَادِ بِأَصْحَابِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ!". قَالَ: فَجَاءَ النَّاسُ عُنُقًا وَاحِدًا، فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا عِصَابَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكُمْ غَيْرُكُمْ؟ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ عَمَدْتَ إِلَى بَرْكِ الغِمادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَكُنَّا مَعَكَ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُمْ، وَتَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ: قَبْضَةً مِنْ حَصْبَاءَ فَرَمَى بِهَا وَجَوِّهَ الْكَفَّارِ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ!"، فَانْهَزَمُوا، فَلَمَّا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ، وَأَتَى الْجِعْرَانَةَ، فَقَسَّمَ بِهَا مَغَانِمَ حُنَيْنٍ، وَتَأَلَّفَ أُنَاسًا مِنَ النَّاسِ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: "أَمِنَ الرَّجُلُ وَآثَرَ قَوْمَهُ"! فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَكُنْتُمْ أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ، وَكُنْتُمْ وَكُنْتُمْ!" قَالَ: فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عَبَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ائْذَنْ لِي فَأَتَكَلَّمَ! قَالَ: تَكَلَّمَ. قَالَ: أَمَّا قَوْلُكَ: "كُنْتُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ "، فَكُنَّا كَذَلِكَ "وَكُنْتُمْ أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ "، فَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ مَا كَانَ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَمْنَعَ لِمَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ مِنَّا! فَقَالَ عُمَرُ: يَا سَعْدُ أَتَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ! فَقَالَ: نَعَمْ أُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ سَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَادِيًا وَالنَّاسُ وَادِيًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امرءًا مِنَ الْأَنْصَارِ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: " الْأَنْصَارُ كَرِشَيَّ وَعَيْبَتَيْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْقَلِبَ النَّاسُ بِالْإِبِلِ وَالشَّاءِ، وَتَنْقَلِبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى بُيُوتِكُمْ! فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: رَضِينَا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهِ مَا قُلْنَا ذَلِكَ إِلَّا حِرْصًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ"». حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ أَوْ ظِئْرُهُ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، أَتَتْهُ فَسَأَلَتْهُ سَبَايَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَا أَمْلِكُهُمْ، وَإِنَّمَا لِي مِنْهُمْ نَصِيبِي، وَلَكِنِ ائْتِينِي غَدًا فَسَلِينِي وَالنَّاسَ عِنْدِي، فَإِنِّي إِذَا أَعْطَيْتُكِ نَصِيبِي أَعْطَاكِ النَّاسُ، فَجَاءَتِ الْغَدَ، فَبَسَطَ لَهَا ثَوْبًا، فَقَعَدَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَتْهُ، فَأَعْطَاهَا نَصِيبَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ أَعْطَوْهَا أَنْصِبَاءَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} الْآيَةَ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ! وَأَعْجَبَتْهُ كَثْرَةُ النَّاسِ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَكَلُوا إِلَى كَلِمَةَ الرَّجُلِ، فَانْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَأَيْمَنَ بْنِ أَمِّ أَيْمَنَ، قُتِلَ يَوْمئِذٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ الْأَنْصَارُ؟ أَيْنَ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ؟ فَتَرَاجَعَ النَّاسُ، فأَنْـزَلَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالنَّصْرِ، فَهَزَمُوا الْمُشْرِكِينَ يَوْمئِذٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وأَنْـزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}، الْآيَة». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «لِمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، التَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، آخِذًا بِغَرْزِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَأْلُو مَا أَسْرَعَ نَحْوَ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: فَأَتَيْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِلِجَامِهِ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ شَهْبَاءَ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ. نَادِ أَصْحَابَ السُّمْرَةِ! وَكُنْتُ رَجُلًا صَيِّتًا، فَأَذَّنَتْ بِصَوْتِيَّ الْأَعْلَى: أَيْنَ أَصْحَابُ السُّمْرَةِ! فَالْتَفَتُوا كَأَنَّهَا الْإِبِلُ إِذَا حُشِرَتْ إِلَى أَوْلَادِهَا، يَقُولُونَ: "يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ، يَا لَبَّيْكَ"، وَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، وَتَنَادَتِ الْأَنْصَارُ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ "، ثُمَّ قَصُرَتِ الدَّعْوَةُ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَتُنَادَوْا: "يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ "، فَنَظَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ، إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: "هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ"! ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مِنَ الْحَصْبَاءِ فَرَمَاهُمْ بِهَا، ثُمَّ قَالَ: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!" قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ أَمْرُهُمْ مُدَبِّرًا، وَحَدُّهُمْ كَلِيلًا حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ، قَالَ: فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَى بَغْلَتِه». حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُمْ أَصَابُوا يَوْمئِذٍ سِتَّةَ آلَافِ سَبْيٍ، ثُمَّ جَاءَ قَوْمُهُمْ مُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنْتَ خَيْرُ النَّاسِ، وَأَبَرُّ النَّاسِ، وَقَدْ أَخَذْتَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عِنْدِي مَنْ تَرَوْنَ! وَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ، اخْتَارُوا: إِمَّا ذَرَّارِيكُمْ وَنِسَاءَكُمْ، وَإِمَّا أَمْوَالَكُمْ. قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْدِلُ بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا! فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ جَاءُونِي مُسْلِمِينَ، وَإِنَّا خَيَّرْنَاهُمْ بَيْنَ الذَّرَّارِي وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا، فَمَنْ كَانَ بِيَدِهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فَطَابَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَرُدَّهُ فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ، وَمَنْ لَا فَلْيُعْطِنَا، وَلْيَكُنْ قَرْضًا عَلَيْنَا حَتَّى نُصِيبَ شَيْئًا، فَنُعْطِيَهُ مَكَانَهُ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، رَضِينَا وَسَلَّمْنَا! فَقَالَ: "إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ مِنْكُمْ مَنْ لَا يَرْضَى، فَمُرُوا عُرَفَاءَكُمْ فَلْيَرْفَعُوا ذَلِكَ إِلَيْنَا، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ الْعُرَفَاءَ أَنْ قَدْ رَضُوا وَسَلَّمُوا». حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي الفِهْرِيِّ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا رَكَدَتِ الشَّمْسُ، لَبِسْتُ لِأَمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ حَانَ الرَّوَاحُ، فَقَالَ: أَجَلْ! فَنَادَى: "يَا بِلَالُ! يَا بِلَالُ!" فَقَامَ بِلَالٌ مِنْ تَحْتِ سُمْرَةٍ، فَأَقْبَلَ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَيْرٍ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَنَفْسِي فِدَاؤُكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْرِجْ فَرَسِي! فَأَخْرَجَ سَرْجًا دَفَّتَاهُ حَشْوُهمَا لِيفٌ، لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ قَالَ: فَرَكِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَافَفْنَاهُمْ يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا، فَلَمَّا الْتَقَى الْخَيْلَانِ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ، فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عِبَادَ اللَّهِ، يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ!". قَالَ: وَمَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَخَذَ حِفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا بَقِيَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدِ امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ التُّرَاب». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: فَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَفِرْ، وَكَانَتْ هَوَازِنُ يَوْمئِذٍ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا حَمَلَنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ: أَنَـا النَّبِـيُّ لَا كَـذِبْ *** أَنَـا ابْـنُ عبـدِ المُطَّلِـبْ حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عِمَارَة، وَلَّيْتُِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ وَأَنَا أَسْمَعُ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُوَلِّ يَوْمئِذٍ دُبُرَهُ، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُودُ بَغْلَتَهُ، فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ نَـزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَـا النَّبِـيُّ لَا كَـذِبْ *** أَنَـا ابْـنُ عبـدِ المُطَّلِـبْ فَمًا رُؤي يَوْمئِذٍ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَمِّ بُرْثُنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلَبَ شَاةٍ أَنْ كَشَفْنَاهُمْ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَسُوقُهُمْ، إِذِ انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ، فَتَلْقَانَا رِجَالٌ بِيضٌ حَسَّانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُوا لَنَا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا"! فَرَجَعْنَا، وَرَكِبْنَا الْقَوْمَ، فَكَانَتْ إِيَّاهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: أَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. قَالَ: وَيَوْمئِذٍ سَمَّى اللَّهُ الْأَنْصَارَ "مُؤْمِنِينَ". قَالَ: {فأَنْـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وأَنْـزَلَ جُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، قَالَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الأدَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ السَّائِبِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَتِ انْكَشَافَةُ الْمُسْلِمِينَ حِينَ انْكَشَفُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ، ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، فَأَقْبَلَ بِهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يَتْبَعُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَثَاهَا فِي وُجُوهِهِمْ وَقَالَ: "ارْجِعُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ!". قَالَ: فَانْصَرَفْنَا، مَا يَلْقَى أَحَدٌ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يَمْسَحُ الْقَذَى عَنْ عَيْنَيْهِ. وَبِهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ السُّوائِيِّ قَالَ: قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حَاجِزٍ، الرُّعْبُ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، مَاذَا وَجَدْتُمْ؟ قَالَ: وَكَانَ أَبُو حَاجِزٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكَانَ يَأْخُذُ الْحَصَاةَ فَيَرْمِي بِهَا فِي الطَّسْتِ فَيَطِنُّ، ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ فِي أجوافِنَا مِثْلَ هَذَا! حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَوْفٍ قَالَ، سَمِعْتُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أُمِّ بُرْثُنَ أَوْ: أُمِّ بِرْثَمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلَبَ شَاةٍ. قَالَ: فَلَمَّا كَشَفْنَاهُمْ جَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ فِي أَدْبَارِهِمْ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَتَلْقَانَا عِنْدَهُ رِجَالٌ بِيضٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ فَقَالُوا لَنَا: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ، ارْجِعُوا!"، قَالَ: فَانْهَزَمْنَا، وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا، فَكَانَتْ إِيَّاهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {ثُمَّ أَنـزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنـزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ مِنْ بَعْدِ مَا ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَتَوْلِيَتِكُمُ الْأَعْدَاءَ أَدْبَارَكُمْ، كَشَفَ اللَّهُ نَازِلَ الْبَلَاءِ عَنْكُمْ، بِإِنْـزَالِهِ السِّكِّينَةَ وَهِيَ الْأَمَنَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَيْكُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا "فَعَيْلَةٌ"، مِنَ "السُّكُونِ"، فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {وأَنْـزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدْ مَضَى ذَكَرُهَا {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، يَقُولُ: وَعَذَّبَ اللَّهُ الَّذِينَ جَحَدُوا وَحْدَانِيَّتَهُ وَرِسَالَةَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْقَتْلِ وَسَبْيِ الْأَهْلِينَ وَالذَّرَارِي، وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ وَالذِّلَّةِ {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، يَقُولُ: هَذَا الَّذِي فَعَلْنَا بِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ (جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)، يَقُولُ: هُوَ ثَوَابُ أَهْلِ جَحُودِ وَحْدَانِيَّتِهِ وَرِسَالَةِ رَسُولِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، يَقُولُ: قَتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قَالَ: بِالْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، قَالَ: مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ بِتَوْفِيقِهِ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، مِنْ بَعْدِ عَذَابِهِ الَّذِي بِهِ عَذَّبَ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ قَتَلًا بِالسَّيْفِ (عَلَى مَنْ يَشَاءُ)، أَيْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، يُقْبِلُ بِهِ إِلَى طَاعَتِهِ (وَاللَّهُ غَفُورٌ)، لِذُنُوبِ مَنْ أَنَابَ وَتَابَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ وَمَنْ غَيْرِهِمْ مِنْهَا (رَحِيمٌ)، بِهِمْ، فَلَا يُعَذِّبْهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ، وَلَا يُؤَاخِذْهُمْ بِهَا بَعْدَ إِنَابَتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ: مَا الْمُشْرِكُونَ إِلَّا نَجَسٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "النَّجِسِ"، وَمَا السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمَّاهُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يُجْنِبُونَ فَلَا يَغْتَسِلُونَ، فَقَالَ: هُمْ نَجَسٌ، وَلَا يَقْرُبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِأَنَّ الْجُنُبَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، فِيقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}: لَا أَعْلَمُ قَتَادَةَ إِلَّا قَالَ: "النَّجَسُ"، الْجَنَابَةُ. وَبِهِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ حُذَيْفَةَ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جُنُبٌ! فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، أَيْ: أَجْنَابٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَا الْمُشْرِكُونَ إِلَّا رِجْسٌ خِنْـزِيرٌ أَوْ كَلْبٌ. وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ حَمِيدٍ، فَكَرِهْنَا ذَكَرَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: فَلَا تَدْعُوهُمْ أَنْ يَقْرُبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِدُخُولِهِمُ الْحَرَمَ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ فَقَدْ قَرُبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، وَابْنُ الْمُثَنَّى قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: الْحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ. قَالَ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، لَمْ يَعْنِ الْمَسْجِدَ وَحْدَهُ، إِنَّمَا عَنَى مَكَّةَ وَالْحَرَمَ. قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ: "أَنِ امْنَعُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ دُخُولِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ"، وَأَتْبَعَ فِي نَهْيِهِ قَوْلَ اللَّهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، قَالَ: لَا تُصَافِحُوهُمْ، فَمَنْ صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: بَعْدَ الْعَامِ الَّذِي نَادَى فِيهِ عَلَيٌّ-رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- بِبَرَاءَةٌ، وَذَلِكَ عَامَ حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ، وَهِيَ سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، وَنَادَى عَلَيٌّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بِالْأَذَانِ، وَذَلِكَ لِتِسْعِ سِنِينَ مَضَيْنَ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَجَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَامِّ الْمُقْبِلِ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، لَمْ يَحُجَّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: وَإِنْ خِفْتُمْ فَاقَةً وَفَقْرًا، بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَقْرُبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}. يُقَالُ مِنْهُ: عَالَ يَعِيلُ عَيْلَةً وَعُيُولًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَـا يَـدْرِي الفَقِـيرُ مَتَـى غِنَـاهُ *** وَمَـا يَـدْرِي الغَنِـيُّ مَتَـى يَعِيـلُ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ فِي الْفَاقَةِ: "عَالَ يُعَولُ" بِالْوَاوِ. وَذُكِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ فَائِدٍ أَنَّهُ كَانَ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، بِمَعْنَى: وَإِذْ خِفْتُمْ. وَيَقُولُ: كَانَ الْقَوْمُ قَدْ خَافُوا، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِأَبِيهِ: "إِنْ كَنْتَ أَبِي فَأَكْرِمْنِي"، بِمَعْنَى: إِذْ كَنْتَ أَبِي. وَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا بِانْقِطَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، انْقِطَاعَ تِجَارَاتِهِمْ، وَدُخُولَ ضَرَرٍ عَلَيْهِمْ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ، وَأَمَّنَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْعَيْلَةِ، وَعَوَّضَهُمْ مِمَّا كَانُوا يَكْرَهُونَ انْقِطَاعَهُ عَنْهُمْ، مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ، وَهُوَ الْجِزْيَةُ، فَقَالَ لَهُمْ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، إِلَى: (صَاغِرُونَ). وَقَالَ قَوْمٌ: بِإِدْرَارِ الْمَطَرِ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، قَالَ: لَمَّا نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ الْحُزْنَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُونَ، وَقَدْ نُفِيَ الْمُشْرِكُونَ وَانْقَطَعَتْ عَنْهُمُ الْعِيرُ! فَقَالَ اللَّهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}، فَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سَمَّاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجِيئُونَ إِلَى الْبَيْتِ، وَيَجِيئُونَ مَعَهُمْ بِالطَّعَامِ، وَيتَّجِرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَيْنَ لَنَا طَعَامٌ؟ فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}، فأَنْـزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَكَثُرَ خَيْرُهُمْ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَمَّاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هَنَّادٍ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ وَاقَدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: مَنْ يَأْتِينَا بِطَعَامِنَا، وَمَنْ يَأْتِينَا بِالْمَتَاعِ؟ فَنَـزَلَتْ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ وَاقَدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدُمُونَ عَلَيْهِمْ بِالتِّجَارَةِ، فنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، إِلَى قَوْلِهِ: {عَيْلَةً}، قَالَ: الْفَقْرُ {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ قَالَ: قَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَتِهِمْ وبِيَاعَاتِهِمْ، فَنَـزَلَتْ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، إِلَى قَوْلِهِ: (مِنْ فَضْلِهِ). حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، سَمِعتُ أَبِي أَحْسِبْهُ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، قَالَ: لَمَّا قِيلَ: وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ! قَالُوا: قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ فِي الْمَوْسِمِ. قَالَ: فَنَـزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، يَعْنِي: بِمَا فَاتَهُمْ مِنْ بِيَاعَاتِهِمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضِّحَاكِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ: الْجِزْيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، قَالَ: أُخْرِجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: كُنَّا نُصِيبُ مِنْهُمُ التِّجَارَةَ وَالْمِيرَةَ. فأَنْـزَلَ اللَّهُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضِّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يتألَّفُونَ الْعِيرَ؛ فَلَمَّا نَـزَلَتْ "بَرَاءَةٌ" بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُمَا ثُقِفُوا، وَأَنْ يَقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، قَذَفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ: فَمِنْ أَيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْعِيرِ؟ فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَ، فَقَالَ: أَطِيعُونِي، وَامْضُوا لِأَمْرِي، وَأَطِيعُوا رَسُولِي، فَإِنِّي سَوْفَ أُغْنِيكُمْ مِنْ فَضْلِي، فَتَوَكَّلَ لَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}، قَالَ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: كُنَّا نُصِيبُ مِنْ مَتَاجِرِ الْمُشْرِكِينَ! فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، عِوَضًا لَهُمْ بِأَنْ لَا يُقِرْبُوهُمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مَعَ أَوَّلِ "بَرَاءَةٌ" فِي الْقِرَاءَةِ، وَمَعَ آخِرِهَا فِي التَّأْوِيلِ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، حِينَ أُمِرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا نَفَى اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَأْتُونَ بِبَيْعَاتٍ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ. فأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، فَأَغْنَاهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ، الْجِزْيَةَ الْجَارِيَةَ عَلَيْهِمْ، يَأْخُذُونَهَا شَهْرًا شَهْرًا، عَامًا عَامًا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَقْرَبَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدِ عَامِهِمْ بِحَالٍ، إِلَّا صَاحِبَ الْجِزْيَةِ، أَوْ عَبْدَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ. قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، قَالَ: إِلَّا صَاحِبُ جِزْيَةٍ، أَوْ عَبْدٌ لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، أَوْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قَالَ: أَغْنَاهُمُ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ الْجَارِيَةِ شَهْرًا فَشَهْرًا، وَعَامًا فَعَامًا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، قَالَ: لَا يَقْرَبُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا مُشْرِكٌ وَلَا ذِمِّيٌّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: لَتُقْطَعَنَّ عَنَّا الْأَسْوَاقُ، وَلِتَهْلِكَنَّ التِّجَارَةُ، وَلَيَذْهَبَنَّ مَا كُنَّا نُصِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَرَافِقِ! فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ (إِنْ شَاءَ)، إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمَّا تَخَوَّفْتُمْ مَنْ قَطَعَ تِلْكَ الْأَسْوَاقِ، فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ مَنْ أَمْرِ الشِّرْكِ، مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ)، بِمَا حَدَّثَتْكُمْ بِهِ أَنْفُسَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، مِنْ خَوْفِ الْعَيْلَةِ عَلَيْهَا بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ (حَكِيمٌ)، فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَدْبِيرِ جَمِيعِ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَاتَلُوا)، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْقَوْمَ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، يَقُولُ: وَلَا يُصَدِّقُونَ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، يَقُولُ: وَلَا يُطِيعُونَ اللَّهَ طَاعَةَ الْحَقِّ، يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَ طَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَكُلُّ مُطِيعٍ مَلِكًا وَذَا سُلْطَانٍ، فَهُوَ دَائِنٌ لَهُ. يُقَالُ مِنْهُ: دَانَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ يَدِينُ لَهُ، دِينًا"، قَالَ زُهَيْرٌ: لَئِـنَ حَـلَلْتَ بِجَـوٍّ فِـي بَنِـي أَسَـدٍ *** فِـي دِيـنِ عَمْـرٍو وَحَـالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ وَقَوْلُهُ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، يَعْنِي: الَّذِينَ أُعْطُوْا كِتَابَ اللَّهِ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}. وَ "الجِزْيَةُ": الْفِعْلَةُ مِنْ: "جَزَى فُلَانٌ فُلَانًا مَا عَلَيْهِ"، إِذَا قَضَاهُ، "يَجْزِيهِ"، وَ "الجِزْيَةُ" مِثْلُ "الْقِعْدَةِ" وَ "الجِلْسَةُ". وَمَعْنَى الْكَلَامِ: حَتَّى يُعْطُوا الْخَرَاجَ عَنْ رِقَابِهِمِ، الَّذِي يَبْذُلُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ دَفْعًا عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (عَنْ يَدٍ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: مِنْ يَدِهِ إِلَى يَدِ مَنْ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مُعْطٍ قَاهِرًا لَهُ، شَيْئًا طَائِعًا لَهُ أَوْ كَارِهًا: "أَعْطَاهُ عَنْ يَدِهِ، وَعَنْ يَدٍ". وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: "كَلَّمْتُهُ فَمًا لِفَمٍ"، وَ"لَقِيَتْهُ كَفَّةً لكَفَّةٍ، وَكَذَلِكَ: "أَعْطَيْتهُ عَنْ يَدٍ لِيَد". وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَهُمْ أَذِلَّاءُ مَقْهُورُونَ. يُقَالُ لِلذَّلِيلِ الْحَقِيرِ: "صَاغِرٌ". وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ الرُّومِ، فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُـزُولِهَا غَزْوَةَ تَبُوكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قَاتَلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، حِينَ أُمِرَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الصَّغَارِ"، الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ، وَالْآخِذُ جَالِسٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قَالَ: أَيْ تَأْخُذُهَا وَأَنْتَ جَالِسٌ، وَهُوَ قَائِمٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بِأَيْدِيهمْ يَمْشُونَ بِهَا، وَهُمْ كَارِهُونَ، وَذَلِكَ قَوْلٌ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ وَجْهٍ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِعْطَاؤُهُمْ إِيَّاهَا، هُوَ الصَّغَارُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْقَائِلِ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، هُوَ فِنْحَاصُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، قَالَ: قَالَهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالُوا: إِنَّ اسْمَهُ فِنْحَاصُ. وَقَالُوا: هُوَ الَّذِي قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 181]. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّامُ بْنُ مِشْكِمٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصِّيفِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتنَا، وَأَنْتَ لَا تَزْعُمُ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ؟ فأَنْـزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، إِلَى: {أَنَّى يُؤْفِكُونَ}». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، وَإِنَّمَا قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ عِنْدَهُمْ، فَعَمِلُوا بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَعْمَلُوا، ثُمَّ أَضَاعُوهَا وَعَمِلُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ أَنَّهُمْ قَدْ أَضَاعُوا التَّوْرَاةَ وَعَمِلُوا بِالْأَهْوَاءِ، رَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ التَّابُوتَ، وَأَنْسَاهُمُ التَّوْرَاةَ، وَنَسَخَهَا مِنْ صُدُورِهِمْ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَرَضًا، فَاسْتَطْلَقَتْ بُطُونَهُمْ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَمْشِي كَبِدَهُ، حَتَّى نَسُوا التَّوْرَاةَ، وَنُسِخَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَفِيهِمْ عُزَيْرٌ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا بَعْدَ مَا نُسِخَتِ التَّوْرَاةُ مِنْ صُدُورِهِمْ، وَكَانَ عُزَيْرٌ قَبْلُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَدَعَا عُزَيْرٌ اللَّهَ، وَابْتَهَلَ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الَّذِي نُسِخَ مِنْ صَدْرِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي مُبْتَهِلًا إِلَى اللَّهِ، نَـزَلَ نُورٌ مِنَ اللَّهِ فَدَخَلَ جَوْفَهُ، فَعَادَ إِلَيْهِ الَّذِي كَانَ ذَهَبَ مِنْ جَوْفِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَأَذَّنَ فِي قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، قَدْ آتَانِي اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَرَدَّهَا إِلَيَّ! فَعَلِقَ بِهِمْ يُعَلِّمُهُمْ، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ يُعُلِّمُهُمْ، ثُمَّ إِنَّ التَّابُوتَ نَـزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَهَابِهِ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَوُا التَّابُوتَ عَرَضُوا مَا كَانَ فِيهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عُزَيْرٌ يُعَلِّمُهُمْ، فَوَجَدُوهُ مِثْلَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أُوتِيَ عُزَيْرٌ هَذَا إِلَّا أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، إِنَّمَا قَالَتْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْعَمَالِقَةُ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا التَّوْرَاةَ، وَذَهَبَ عُلَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ بَقُوا، وَقَدْ دَفَنُوا كُتُبَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ. وَكَانَ عُزَيْرٌ غُلَامًا يَتَعَبَّدُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، لَا يَنْـزِلُ إِلَّا يَوْمَ عِيدٍ، فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَبْكِي وَيَقُولُ: "رَبِّ تَرَكْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرِ عَالِمٍ"! فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى سَقَطَتْ أَشْفَارُ عَيْنَيْهِ، فَنَـزَلَ مَرَّةً إِلَى الْعِيدِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِذَا هُوَ بِامْرَأَةٍ قَدْ مَثُلَتْ لَهُ عِنْدَ قَبْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ تَبْكِي وَتَقُولُ: يَا مُطْعِمَاهُ، وَيَا كاسِيَاهُ! فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ، مَنْ كَانَ يُطْعِمُكُ أَوْ يَكْسُوكِ أَوْ يَسْقِيكِ أَوْ يَنْفَعُكِ قَبْلَ هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَتْ: اللَّهُ! قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ! قَالَتْ: يَا عُزَيْرُ، فَمَنْ كَانَ يُعَلِّمُ الْعُلَمَاءَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: اللَّهُ! قَالَتْ: فَلِمَ تَبْكِي عَلَيْهِمْ؟ فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ خُصِمَ، وَلَّى مُدَبِّرًا، فَدَعَتْهُ فَقَالَتْ: يَا عُزَيْرُ، إِذَا أَصْبَحْتَ غَدًا فَأْتِ نَهْرَ كَذَا وَكَذَا فَاغْتَسَلْ فِيهِ، ثُمَّ اخْرُجْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَأْتِيكَ شَيْخٌ، فَمَا أَعْطَاكَ فَخُذْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ عُزَيْرٌ إِلَى ذَلِكَ النَّهْرِ، فَاغْتَسَلَ فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَجَاءَهُ الشَّيْخُ فَقَالَ: افْتَحْ فَمَكَ! فَفَتَحَ فَمَهُ، فَأَلْقَى فِيهِ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْجَمْرَةِ الْعَظِيمَةِ، مُجْتَمَعٍ كَهَيْئَةِ الْقَوَارِيرِ، ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَرَجَعَ عُزَيْرٌ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالتَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِالتَّوْرَاةِ! فَقَالُوا: يَا عُزَيْرُ، مَا كُنْتَ كَذَّابًا! فَعَمَدَ فَرَبَطَ عَلَى كُلِّ إِصْبَعٍ لَهُ قَلَمًا، وَكَتَبَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا، فَكَتَبَ التَّوْرَاةَ كُلَّهَا، فَلَمَّا رَجَعَ الْعُلَمَاءُ، أُخْبِرُوا بِشَأْنِ عُزَيْرٍ، فَاسْتَخْرَجَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ كُتُبَهُمُ الَّتِي كَانُوا دَفَنُوهَا مِنَ التَّوْرَاةِ فِي الْجِبَالِ، وَكَانَتْ فِي خَوَابٍ مَدْفُونَةٍ، فَعَارَضُوهَا بِتَوْرَاةِ عُزَيْرٍ، فَوَجَدُوهَا مِثْلَهَا، فَقَالُوا: مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ هَذَا إِلَّا أَنَّكَ ابْنُهُ! وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} "، لَا يُنَوِّنُونَ "عُزَيْرًا". وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، بِتَنْوِينِ "عُزَيْر" قَالَ: هُوَ اسْمٌ مُجْرًى وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا، لِخِفَّتِهِ. وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى اللَّهِ، فَيَكُونُ بِمَنْـزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: "زَيْدٌ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، وَأَوْقَعَ "الِابْنَ" مَوْقِعَ الْخَبَرِ. وَلَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى اللَّهِ لَكَانَ الْوَجْهُ فِيهِ، إِذَا كَانَ الِابْنُ خَبَرًا، الْإِجْرَاءُ، وَالتَّنْوِينُ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ. وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ تَنْوِينَ " عُزَيْرٍ "، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْبَاءُ مِنَ "ابْنٍ" سَاكِنَةً مَعَ التَّنْوِينِ السَّاكِنِ، وَالْتَقَى سَاكِنَانِ، فَحُذِفَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا اسْتِثْقَالًا لِتَحْرِيكِهِ، قَالَ الرَّاجِزُ: لَتَجِـدَنِّي بِـالأمِيرِ بَـرًّا *** وَبِالقَنَـاةِ مِدْعَسًـا مِكَـرَّا إِذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا فَحَذَفَ النُّونَ لِلسَّاكِنِ الَّذِي اسْتَقْبَلَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، بِتَنْوِينِ " عُزَيْرٍ "، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُنَوِّنُ الْأَسْمَاءَ إِذَا كَانَ "الِابْنُ" نَعْتًا لِلِاسْمِ، [وَتُنَوِّنُهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا]، كَقَوْلِهِمْ: "هَذَا زَيْدٌ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، فَأَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ "زَيْد" بِأَنَّهُ "ابْنُ عبدِ اللَّهِ"، وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ يَجْعَلُوا "الِابْنَ" لَهُ نَعْتًا وَ "الابْنُ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَبَرٌ لِـ "عُزَيْرٌ"، لِأَنَّ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، إِنَّمَا أَخْبَرُوا عَنْ "عُزَيْرٍ"، أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا بِقِيْلِهِمْ ذَلِكَ كَانُوا كَاذِبِينَ عَلَى اللَّهِ مُفْتَرِينَ. {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، يَعْنِي قَوْلَ الْيَهُودِ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}. يَقُولُ: يُشْبِهُ قَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ وَنِسْبَتِهِمُ الْمَسِيحَ إِلَى أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ، كَذِبَ الْيَهُودِ وَفِرْيَتَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي نِسْبَتِهِمْ عُزَيْرًا إِلَى أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ سُبْحَانَهُ، بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: يُشْبِهُونَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، ضَاهَتْ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ قَبْلَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، النَّصَارَى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الْيَهُودِ فِي "عَزِيزٍ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: النَّصَارَى، يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الْيَهُودِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}، يَقُولُ: قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: يَحْكُونَ بِقَوْلِهِمْ قَوْلَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ، الَّذِينَ قَالُوا: "اللَّاتَ، وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ: (يُضَاهُونَ)، بِغَيْرِ هَمْزٍ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ: (يُضَاهِئُونَ)، بِالْهَمْزِ، وَهِيَ لُغَةٌ لِثَقِيفَ. وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: "ضَاهَيْتُهُ عَلَى كَذَا أُضَاهِيهِ مُضَاهَاةً" وَ"ضَاهَأْتُهُ عَلَيْهِ مُضَاهَأَةً"، إِذَا مَالَأْتُهُ عَلَيْهِ وَأَعَنْتُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ تَرْكُ الْهَمْزِ، لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، وَاللُّغَةُ الْفُصْحَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ، فِيمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، يَقُولُ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "قَتْلٌ"، فَهُوَ لَعْنٌ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، يَعْنِي النَّصَارَى، كَلِمَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ: قَتَلَهُمُ اللَّهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قَاتَعَكَ اللَّهُ "، وَ"قَاتَعَهَا اللَّهُ "، بِمَعْنَى: قَاتَلَكَ اللَّهُ. قَالُوا: وَ"قَاتَعَكَ اللَّهُ " أَهْوَنُ مِنْ "قَاتَلَهُ اللَّهُ ". وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: "شَاقَّاهُ اللَّهُ مَا تَاقَّاهُ"، يُرِيدُونَ: أَشْقَاهُ اللَّهُ مَا أَبْقَاهُ. قَالُوا: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}، كَقَوْلِهِ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}، [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ: 10]، وَ {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}، [سُورَةُ الْبُرُوجِ: 4]، وَاحِدٌ هُوَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ. فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالُوا كَمَا قَالُوا، فَهُوَ مِنْ نَادِرِ الْكَلَامِ الَّذِي جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ "فَاعَلَتْ" لَا تَكَادُ أَنْ تَجِيءَ فِعْلًا إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ: "خَاصَمْتُ فُلَانًا"، وَ"قَاتَلْتُهُ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَهُمْ: "عَافَاكَ اللَّهُ " مِنْهُ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَعْفَاكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى الدُّعَاءِ لِمَنْ دَعَا لَهُ بِأَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ السُّوءِ. وَقَوْلُهُ: (أَنَّى يُؤْفِكُونَ)، يَقُولُ: أَيَّ وَجْهٍ يُذْهِبُ بِهِمْ، وَيَحِيدُونَ؟ وَكَيْفَ يَصُدُّونَ عَنِ الْحَقِّ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: اتَّخَذَ الْيَهُودُ أَحْبَارَهُمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا قَبْلُ. وَاحِدُهُمْ "حَبْرٌ"، وَ"حِبْرٌ" بِكَسْرِ الْحَاءِ مِنْهُ وَفَتْحِهَا. وَكَانَ يُونُسُ الْجَرْمِيُّ، فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا "حِبْرًا" بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ النَّاسِ: "هَذَا مِدَادُ حِبْرٍ"، يُرَادُ بِهِ: مِدَادُ عَالِمٍ. وَذكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّهُ سَمِعَهُ "حِبْرًا"، وَ"حَبْرًا" بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا. وَالنَّصَارَى "رُهْبَانُهُمْ"، وَهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ وَأَهْلُ الِاجْتِهَادِ فِي دِينِهِمْ مِنْهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الضِّحَاكِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}، قَالَ: قُرَّاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ. {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يَعْنِي: سَادَةً لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يُطِيعُونَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَيُحِلُّونَ مَا أَحَلُّوهُ لَهُمْ مِمَّا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَهُ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ الْمُلَائِيُّ، عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي "سُورَةِ بَرَاءَةٌ": {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فَقَالَ: أَمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ فَيُحِلُّونَ». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُطَيْفُ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عُدَيُّ، اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ! قَالَ: فَطَرَحْتُهُ، وَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي "سُورَةِ بَرَاءَةٌ"، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ! فَقَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ!» وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ أَبِي كُرَيْبٍ. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السُّكُونِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ قَيْسٍ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ النَّهْدَيِّ، عَنْ غُضَيْفٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ "سُورَةَ بَرَاءَةٌ"، فَلَمَّا قَرَأَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِمَّا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ لَهُمْ! قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَه». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي البُخْتِرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْقَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: لَا كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي البُخْتِرِيِّ قَالَ: قِيلَ لِأَبِي حُذَيْفَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيَسْتَحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْبُخْتِرِيِّ قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ}؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَصُومُونَ لَهُمْ وَلَا يُصَلُّونَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا أَحلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ كَانَتْ رُبُوبِيَّتَهُمْ. قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الْبُخْتِرِيِّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ: انْطَلَقُوا إِلَى حَلَالِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ حَرَامًا، وَانْطَلَقُوا إِلَى حَرَامِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ حَلَالًا فَأَطَاعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ طَاعَتَهُمْ عِبَادَتَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا لَهُمُ: "اعْبُدُونَا"، لَمْ يَفْعَلُوا. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبُخْتِرِيِّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ قَالَ: لَا كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا}، قَالَ: فِي الطَّاعَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يَقُولُ: زَيَّنُوا لَهُمْ طَاعَتَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَأْمُرُوهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُمْ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَطَاعُوهُمْ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ أَرْبَابًا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا}، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: كَيْفَ كَانَتِ الرُّبُوبِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: [لَمْ يَسُبُّوا أَحْبَارَنَا بِشَيْءٍ مَضَى] "مَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا، وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ"، وَهُمْ يَجِدُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوْا عَنْهُ، فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ، وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ سُوَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الْبُخْتِرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ: لَمْ يَعْبُدُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي الْمَعَاصِي. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَمَا أُمِرَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ أَرْبَابًا، إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا مَعْبُودًا وَاحِدًا، وَأَنْ يُطِيعُوا إِلَّا رَبًّا وَاحِدًا دُونَ أَرْبَابٍ شَتَّى، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَطَاعَةُ كُلِّ خُلْقٍ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ الدَّيْنُونَةُ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ "لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ"، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا تَنْبَغِي الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لِلْوَاحِدِ الَّذِي أَمَرَ الْخَلْقَ بِعِبَادَتِهِ، وَلَزِمَتْ جَمِيعَ الْعِبَادِ طَاعَتُهُ {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، يَقُولُ: تَنْـزِيهًا وَتَطْهِيرًا لِلَّهِ عَمَّا يُشْرِكُ فِي طَاعَتِهِ وَرُبُوبِيَّتهِ، الْقَائِلُونَ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، وَالْقَائِلُونَ: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، الْمُتَّخِذُونَ أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذُونَ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ بِتَكْذِيبِهِمْ بِدِينِ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ، وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، أَنْ يُبْطِلُوهُ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ ضِيَاءً {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}، يَعْلُوَ دِينُهُ، وَتَظْهَرَ كَلِمَتُهُ، وَيَتِمَّ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَوْ كَرِهَ) إِتْمَامَ اللَّهِ إِيَّاهُ (الْكَافِرُونَ)، يَعْنِي: جَاحِدِيهِ الْمُكَذِّبِينَ بِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}، يَقُولُ: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا الْإِسْلَامَ بِكَلَامِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ الَّذِي يَأْبَى إِلَّا إِتْمَامَ دِينِهِ وَلَوْ كَرِهَ ذَلِكَ جَاحِدُوهُ وَمُنْكِرُوهُ {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ}، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِالْهُدَى)، يَعْنِي: بِبَيَانِ فَرَائِضِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ وَبِدِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، يَقُولُ: لِيُعْلِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمِلَلِ كُلِّهَا (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، بِاللَّهِ ظُهُورَهُ عَلَيْهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ عِيسَى، حِينَ تَصِيرُ الْمِلَلُ كُلُّهَا وَاحِدَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا شَقِيقٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْحَدَّادُ أَبُو الْمِقْدَامِ، عَنْ شَيْخٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، قَالَ: حِينَ خُرُوجِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا جَعْفَرٍ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، قَالَ: إِذَا خَرَجَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، اتَّبَعَهُ أَهْلُ كُلِّ دِينٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لِيُعَلِّمَهُ شَرَائِعَ الدِّينِ كُلَّهَا، فَيُطْلِعَهُ عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، قَالَ: لِيُظْهِرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ كُلِّهِ، فَيُعْطِيَهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ.
|